لو تساءلنا: لماذا نجح أسلافنا في إقامة حياة مزدهرة على وجه الأرض وفشلنا؟
ولماذا نشروا الأمن والسلام والخير والوئام بين بني البشر وعجزنا؟
ألنقص في كتبنا؟، أم لقلة في إدراكنا وفهمنا؟!، أم لبعدنا عن اتخاذ كتاب الله
عز وجل - كما أراد سبحانه - منهجاً عملياً لنا؟!
لقد كان العرب قبل الإسلام أمة أميّة، فاستطاعوا بهذا الكتاب الخالد وبمفرده أن
يحققوا كل ما حققوه من نجاح في الحياة، عندما تبنوه فكراً وعقيدة وسلوكاً.
ولكن ما هو سر هذا النجاح؟، وما هي مقوماته؟، وما هي الأسس الموجودة في هذا
الكتاب الخالد - القرآن الكريم - والتي بها وصل المسلمون إلى قمة المجد
والانتصار وسجل لهم التاريخ بها الخلود على وجه الأرض؟.
هذا ما سنتعرض له في هذا البحث راجياً من المولى القدير القبول والتوفيق إنه
خير مسئول وبالإجابة جدير.
ثانياً: خصائص التشريع القرآني
يمتاز التشريع القرآني بعدة خصائص تكفل له الخلود والبقاء، والصلاحية والثبات،
وأهم هذه الخصائص:
1- كونه ربّاني المصدر
فهو ثابت بلفظه ومعناه من الله تعالى، العليم الخبير، الذي هو أعلم بشؤون
عباده، وما يصلحهم لدنياهم وآخرتهم، ويحقق لهم سبل السعادة والرشاد والهداية
والتوفيق، ولهذا فقد عبر الله سبحانه عن كتابه /القرآن/ بأبلغ العبارات وألطف
الإشارات، فقال سبحانه {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} سورة
الأنبياء: [الآية: 10].
ووصفه بالمبارك فقال سبحانه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب} سورة ص: [الآية: 29].
، وما ذاك إلا لسمو هذا الكتاب، وعظمة منزّله، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذا
بعكس ما يضعه البشر، لأن ما يضعونه يصلح لزمن دون زمن أو لجماعة دون أخرى.
2- كونه إنساني النزعة
فالإنسان في القرآن أخو الإنسان، ولو كان على غير دينه واعتقاده، ويدلنا على
ذلك أن كثيراً من الأنبياء الذين قصّ الله سبحانه علينا قصصهم، وكيفية إبلاغهم
لأقوامهم، سماهم الله عز وجل إخوة لهم، بالرغم من تكذيبهم وعنادهم، فقال تعالى:
{كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون} سورة الشعراء:
[الآيتان: 105-106].
، وقال جل وعلا: {كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون} سورة
الشعراء: [الآيتان: 123-124].
وقال عز من قائل {كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون} سورة
الشعراء: [الآيتان: 141-142].
وقال أيضاً عن قوم لوط: {كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا
تتقون} سورة الشعراء: [الآيتان: 160-161].
وعندما خاطب القرآن مشركي مكة خاطبهم بقوله: {يا أيها الناس} ولم يصفهم بالشرك
أو الكفر، ولم يناديهم بـ (يا أيها المشركون)، وما ذلك إلا لوجود تلك النزعة
الإنسانية العظيمة فيه.
هذا وقد وردت كلمة أخ في القرآن قريباً من مئة مرة، ووردت كلمة إنسان أقل من
هذا العدد بقليل، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على مدى تقدير هذه الأخوة،
ومدى الدعوة للمحافظة عليها ودعم روابطها.
3- فيه التعادل والتوازن بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة
اهتم القرآن بالفرد والمجتمع على حد سواء، دون إلحاق الضرر بأي منهما، لكنه
وحفاظاً على بنية الجماعة قدم المصلحة العامة حال تعارضها مع المصلحة الخاصة،
شريطة ا لتعويض لصاحب الملكية الخاصة.ونظرة القرآن هذه هي نظرة صائبة، لأن
المصلحة العامة تنعكس شيئاً فشيئاً على المصالح الخاصة، فتحميها أو ترعاها على
المدى البعيد.
وهذا التعادل والتوازن هو محور وسطية الإسلام، كما قال تعالى: {وكذلك جعلناكم
أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}سورة البقرة:
[الآية: 143].
قال الشاطبي في الموافقات: ((والقاعدة المقررة في موضعها أنه إذا تعارض أمر كلي
وأمر جزئي فالكلي مقدم؛ لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية،والكلي يقتضي مصلحة كلية،
يـــنـــخــرم نظام في العالم بانخرام المصلحة الجزئية، بخلاف ما إذا قُدّم
اعتبار المصلحة الجزئية، فإن المصلحة الكلية ينخرم نظام كليتها))الموافقات في
أصول الشريعة ( تحقيق محمد عبد الله دراز )، ط1، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
وما أروع الكلمة التي ذكرها ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) حين قال:
(الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى
الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث،
فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل).